فلسفة الحضارة، في 25 أبريل 2016، (مجديات أخي الحبيب الراحل المقدم مجدي صقر، رحمه الله، وطيب ثراه)!

الحمد لله رب العالمين!

الحضارة هي النجاح والبراعة والرقي في معاملة الإنسان لنفسه والواقع المحيط به. الحضارة تعني القدرة على البقاء والتطور والانطلاق:
1) القدرة على البقاء، تعني أن لدى صانع الحضارة حلولا للمشكلات الماديّة أو المعنويّة أو الثقافيّة أو الاجتماعيّة التي يواجهها مجتمع وإقليم الحضارة وتؤثر على بقائه.
2) القدرة على التطوّر، أنّ عنصر الاقتناع العقلي والانبهار النفسي يجب ألا تنطفئ جذوته عن بال صانع الحضارة. إنّ الشّعور بالملل والناتج عن نمطيّة التحديات والمشاكل وكذلك نمطيّة الحلول التي يواجهها بها ربما يكون سبب انطفاء جذوة الحضارة. وهذا يعني دخول الحضارة لمرحلة الموت الذاتي أو شيخوخة الحضارة. إنّ تنوّع التحديات والمشاكل وكذلك الحلول المقترحة لمواجهتها ينشّط وجدان الإنسان ويساعده على تحقيق التطّور الحضاري.
قديما كانت الكوارث الطبيعيّة وحديثا الحروب هي أهم الأسباب والدوافع للتطوّر الحضاري، لكن يمكن للحضارة الحديثة خلق تحديات تنمويّة كبرى تستلزم التعاون الكبير بين أجناس البشر ومختلف الحضارات لمواجهتها، للاستعاضة عن خلق المشكلات وافتعال الحروب بينها وبين الآخرين للحفاظ على جذوة الحضارة بين أفراد الشعب، بأن نعتبر محاربة الفقر والجهل والمرض بين البشر مثلا، هدفا بديلا عن محاربه البشر أنفسهم، خاصة مع تطور الفكر البشري الذي أدى إلى عمل حكومة موحدة للأرض (الأمم المتحدة). إنّ القدرة على التطوّر تعنى تخطي صانع الحضارة لمرحلة حل المشكلات إلى مرحلة تجميل الواقع. ويظل الاهتمام بالآخرين وتقديم الدعم المادي أو المساندة المعنويّة لهم دون مقابل هو أهم مظاهر التطوّر الحضاري الإنساني.
3) القدرة على الانطلاق نحو الآفاق، ويقصد بها الانتشار والتمدد الأفقي والهيمنة الماديّة والمعنويّة والثقافيّة على أمم وحضارات أخرى، وأهم من ذلك الانطلاق الرأسي ناحية السماء.
مقومات الحضارة
1) مقومات بشريّة. مهارة وكفاية أفراد الشعب في التعلّم والبحث والاختراع والعمل والإنتاج.
2) مقومات ماديّة، تعني بالأساس الثروة الطبيعة في نطاق إقليم الحضارة.
3) مقومات معنويّة، هي الثقافة والضمير الجمعي والقناعة بين أفراد الشعب لأهميّة وضرورة التعاون في إنشاء الحضارة والإيمان بأهدافها.
لقد أنشأ الإنسان حضارات متعددة ومتنوّعة ومختلفة، ويعود تنوّعها واختلافها إلى:
1) تنوّع مقومات وخصائص البيئة التي نشأت فيها الحضارة؛ فهناك الحضارة المطريّة والبحريّة والنهريّة والجبليّة والصحراويّة.
2) الثقافة المؤسسة للحضارة.
3) طبيعة وخصائص الفرد والجماعة صانعة الحضارة.
لذا فإنّ محاولة فهم الحضارة تستلزم بالضرورة محاولة فهم الإنسان صانع الحضارة، وكذلك فهم البيئة التي نشأت فيها الحضارة؛ فالحضارة هي نتاج تفاعل قوي بين الإنسان العاقل المفكر الباحث المبدع والبيئة التي يعيش فيها.
الحضارة المصريّة
نشأت الحضارة المصريّة في مبدئها كبيرة وقويّة ومكتملة؛ فلم تستلهم بداياتها من حضارة إنسانيّة سابقة، وتبدو للمتأمّل كأن الإنسانيّة بدأت معها، وإن كان هذا الأمر ليس منطقيّا، ولكن هذا ما حدث بالفعل! ومن المحتمل أن يكون علم النبوّات القديمة هو أساسها الثقافي والمعرفي.
من خصائص الحضارة المصريّة
1) التعاونيّة والاشتراكيّة. كان الشعب قويّا نابها مفكرا، يعلم تماما حتميّة التعاون والاشتراك في تحقيق الهدف الأسمى (البقاء على قيد الحياة)؛ لذا صار الفرد جزءا من الكل، لا يستطيع أن يستقل بنفسه.
2) قوة الدولة وسيادة القانون. أنشأت الدولة القديمة في مصر التخصص والتنوّع العلمي لحل كافة المشكلات التي كانت تواجه شعب الحضارة. وكان من أهم التخصصات المستحدثة وقتها علم وفن التنظيم والإدارة وقيادة وتوجيه المجموعات البشريّة؛ فكان الجيش في العادة ينشأ نتيجة للرغبة في مواجهة التحديات الخارجيّة، لكن في مصر نشأ الجيش قوة شرطيّة وإداريّة وتنظيميّة لحماية الحضارة قبل أن يكون للدفاع عن الوطن من تهديد خارجي، بما يظهر الجيش في مصر للباحث في الحضارة المصريّة، هو صانع الحضارة، وهو في الوقت نفسه أهم منتجاتها ومظاهرها.
3) كان أهم أهداف التوسّع الأفقي للحضارة المصريّة، هو تأمين وحماية حدود الدولة من الاعتداء الخارجي، لا بغرض الضم. ويمكننا تسمية الحضارة المصريّة قديما وحديثا بحضارة وادي النيل. ربما استطاعت الحضارة المصريّة بشكل أو آخر التوسع الرأسي واكتشاف الفضاء الخارجي، أو على الأقل إحداث تطوّر كبير في علوم الفلك.
هناك اختلافات بيئيّة كبيرة بين الحضارات، وهذه الاختلافات يجب أن تكون في الحسبان عند مقارنه الحضارات؛ فمثلا الحضارة المصريّة صحراويّة نهريّة زراعيّة، وفيها يكون أكثر اهتمام المواطن في العادة أفقيّا، أي بمن يكون في جواره؛ فكانت حضارة اجتماعيّة سلوكيّة. كان المصري القديم يرى من فوقه الشمس وضوءها ومن تحت قدميه الأرض وترابها وذهبها وبجانبه النهر والثمرات؛ فعَدَّ نفسه في مكان ومكانة وسطٍ بين التراب والنور، فنشأت الحضارة المصريّة على احترام النور أو القوّه العليا (الله)؛ لذا كان الدين عنصرًا أساسيًّا في تكوينها. وعندما دخلت المسيحيّة ومن بعدها الإسلام إلى مصر وجدا تربة خصبة وحماية و دعمًا شديدين.
أوروبا (العجوز اللّعوب)
تُعدّ الحضارة الأوروبيّة جبلية مطريّة رعويّة، وعادة ما يكون أكثر اهتمام الإنسان فيها أسفل قدميّه! كان الأوروبّي القديم عندما يقف على قمّة الجبل يرى كل شيء تحت قدميه، وكان الضباب الكثيف والسحاب يحول بينه وبين الشمس (النور)؛ فعدّ نفسه في مكان ومكانة أعلى من التراب، وكان بغير نور؛ لذا فهو عادة حذر ومتوجس ومتشكك ومتعال ويجيد اقتناص الفرص، وتشكل القوّة الماديّة له أهم الأهداف التي يسعى لتحقيقها. وتتميّز الحضارة الأوروبيّة باستقلال الشخصيّة الفرديّة على حساب الروابط الاجتماعيّة. لم يكن لدى أوروبّا موروث أو مخزون ثقافي ذو بال، وتعدّ الثقافة الأوروبيّة ثقافة فرديّة حادة مضّطربة ومتقلّبة. عاش الأوروبي القديم في حالة وثنيّة فكريًّا ومعيشيًّا، وظن في لحظة من تاريخه أن المسيحيّة ستهبه قوة عظمى تضاف إلى قوّته، لكن عندما لم يتم له ذلك طردها من عقله وقلبه، فلا هو استفاد من المسيحيّة كما أراد السيد المسيح، ولا هو ترك المسيحيّة كما هي! وظهر أثر الاضطراب والتلّوث الثقافي الذي تتميز به أوروبا على المسيحيّة، بأن أصبحت شيئا آخر، وربما أشياء أخرى غير ما كانت عليه قبل أن تدخل أوروبا! انتقل قدر غير قليل من الثقافة الإسلاميّة إلى أوروبا عن طريق إسبانيا الإسلاميّة (الأندلس)، وعن طرق فلسطين زمن الحروب الصليبيّة؛ فطوّرت الحضارة الأوروبيّة الكثير من الجوانب القانونيّة والثقافيّة والإنسانيّة لديها. إنّ الحضارة الأوروبيّة دون النور الذي يأتيها من الشرق لا تستطيع أن تزيد الإنسانيّة إلا المزيد من الشقاء والألم.
إنّ الاختلاف والتباين بين طبيعة الحضارة المصريّة والحضارة الأوروبيّة، كان سببا ونتيجة لوجود اختلافات كبيرة في أسلوب الإدارة والتواصل بين أفراد وطوائف الشعب، مما يؤكّد لنا عدم إمكان نقل الحضارة من مكان لآخر كما هي، ولكن من الممكن الاستفادة من الخبرات والأفكار بعد إجراء التطوير المناسب عليها.
مستقبل مصر بين الكفاية والرداءة
أركان الحضارة المصريّة ثلاثة، هي: العمل، والدين، والدولة. عاشت مصر موجات مد وجذر تاريخيّة كبيرة، لكن استقر بها الحال بحكم العبيد (المماليك)، وكان اهتمام المماليك بتأمين البلاد جيدا وتوسيع رقعتها ما أمكن؛ إذ كانت مصر كانت لهم كل شيء، لكن أدّت الصراعات السياسيّة فيما بينهم إلى عدم استقرار الحكم، مما أوقعها في يد الاحتلال العثماني. إن أهم ما كان يميّز العصر المملوكي قبل الاحتلال التركي هو الفن والإبداع والمهارة الحرفيّة؛ فقد رسّخ المماليك في مصر المهارة والجمال. لم يكن لمصر ولا لأي من البلاد العربيّة أي قيمة لدى المحتل التركي، بل مصدر مال فقط، يدخل للخزانة التركيّة في إستنبول، ونتج عن ذلك الإهمال أن أصبحت مصر أضعف من أن تدافع عن نفسها، وكان الاحتلال الفرنسي! إنّ أهم شيء سيئ فعله الاحتلال الفرنسي في مصر هو حل الطوائف، التي كانت بمثابة تنظيمات مدنيّة (نقابات مهنيّة)، تعمل على تنظيم وحماية الحرف والمهن ووضع معايير الجودة وكذلك تدريب وإجازة المشتغلين بها. كانت الطوائف هي جيش مصر غير المسلح؛ فقد كانت مصدر الانضباط والمهارة. كانت تنظيمات الطوائف هي الركن الأول من أركان الحضارة المصريّة، كما كان الركن الثاني هو الدين الذي يمثله قلعتان قويتان هما الأزهر والكنيسة، وكانت الدولة يمثلها الجيش وهيكل الحكم والإدارة المحليّة هي الركن الثالث. قضى الاحتلال الفرنسي على ركنين رئيسيّين للحضارة المصرية: الجيش، وتنظيمات الطوائف المهنيّة؛ ففقدت مصر هويتها، وتلاشت حضارتها، وأصبحت شيئًا باهتًا غير مفهوم! اعتمد المصريون على ركن واحد من أركان الحضارة، هو الدين الذي حافظ علة وحدة وتماسك الشعب، وتم التحرر من الاحتلال الفرنسي، وتولى محمد علي حكم مصر، وكان رجلا يعرف ما يريد. أعاد محمد علي إلى الحضارة المصريّة ركنيها الغائبين (العمل والدولة)، فكان العلم والتعليم والعمل والمهارة، وكان بناء جيش قوي بالإضافة إلى الأزهر والكنيسة. لكن يبدو أنّ العالم قد تطور بسرعة وأصبح دوليّا ولم يعد إقليميُّا، بمعنى أنّ الخطر أصبح يتهدد مصر من خارج الإقليم، تعاون الأتراك العثمانيون والإنجليز على تدمير مصر ثم احتلالها! قضى الفرنسيون على أهم دعائم الحضارة في مصر (العمل)، لكن المصريين استطاعوا النهوض معتمدين على الدين؛ فقرر الإنجليز هدم الدين حتى لا يبقى للمصريين شيء يجمعهم ويحافظ على ترابطهم وتماسكهم، وتحركوا على محورين:
1) إنشاء دين جديد في مصر. اهتم الانجليز بالتعليم التلقيني وإنشاء أجيال تؤمن وتقدّس الثقافة الأوروبيّة، بلا هويّه ثقافيّة وطنيّة؛ فانتشرت الرداءة التعليميّة والعلميّة والمهنيّة والحرفيّة والإداريّة والثقافيّة والفكريّة والأخلاقيّة والسلوكيّة والاجتماعيّة ومن ثمّ السياسي!
2) تحريف الدين الأصلي عن طريق المتديّنين العملاء الذين يصدرون للناس عن الدين شكلًا مشوّهًا وفاسدًا وغير حقيقي، وكان ذلك لكل من الدين الإسلامي والمسيحي على السواء. كان أهم وأعظم شيء برع فيه الإنجليز في مصر هو وضع الفتن بين الناس. وبعد زمن طويل من الاحتلال استطاعت مصر تكوين جيش -وإن كان قليل العدد- استطاع إنهاء الاحتلال.
ليس في يد مصر الآن إلا ثلث مقوّمات الحضارة (الجيش)، وهو مطالب بما يأتي:
1) إعادة الدين كما كان قبل الاحتلال.
2) إعادة الكفاية العلميّة والثقافيّة والفكريّة.
3) إعادة المهارة العمليّة والمهنيّة والحرفيّة.
4) إعادة الترابط الاجتماعي والرقي السلوكي لأفراد الشعب.
5) تطوير الجهاز الإداري للدولة ومكافحة الفساد.
6) تطوير النظام القضائي.
7) مراجعة شاملة للقوانين في كل المجالات.
إنّ التحديد الدقيق لجوهر المشكلة هو أهم خطوات الحل؛ فنحن الآن أمام أزمة حضاريّة، ومشكلة متعددة الرؤوس، لكن مصر كالغابة الكثيفة، إذا احترقت أخصبت فأنبتت وأورقت وازدهرت، والله أعلم، حفظ الله مصر والمصريين!

Related posts

Leave a Comment